السبت، 20 ديسمبر 2008

لوحهُُ على صفحاتَ الجدولِ


كانَ جدولي شادياً في لحظاتِ حزنهِ ..دائماً أبوحُ لهِ بما يؤرق أيامي،مع مياههِ الجاريةِ يأخذُ أحزانىَّ و يليقها بعيداً..حتى ذلكَ اليومُ.
لم أكنْ بمفرديِ على جدوليِ لقد كانَ هناك آخرُ يجلسُ على الضفةِ الأخرى . مكثتَ عيناى بعينيهِ طويلاً ،انتبهَ لينأى بعينيهِ بعيداً عنى .
ظل حالُنا على ذلك عدةُ أسابيعٍ ..أحسستَ تقارباً لا ريبَ فيه ما بيننا..انتظرتهَ كي يتقدمَ..يقربَ ..يخبرنيَّ بما لديهِ،لكن دون جدوى...
يبدو أن أمراً عظيماً منعه.. و للحزنِ الذي لمحتهَ بعينيهِ من بعيدٍ قررتَ أن أتولي أنا أمر تلك الخطوةُ.
و في يوم عبرتَ له فما إن رآني حتى همَ بالنهوضِ فربتَ على كتفهِ قائلةً:
- ياااااه...ألهذا الحدُ ضايقك تواجدي ؟!..
- فهمس بي.. هي لوحةُ لن تكتملَ، لن أخطَ بريشيتى في لوحهِ لن تكتملَ .
و سألته أن يجلسَ، رحت أخبرهَ لماذا ألجأُ إلى هذا الجدولٌ فقال:
- يا عزيزتي هكذا القدرُ ..فهذه هي الدنيا ..لا تريحُ و لا تستريحُ.
تعجبتَ من هذه الكلماتُ التي نادراً ما يتفوه بها شاب في أواخرِ العشرينات،تساءلتَ ما سر هذا الحزنِ العميقِ بداخلهِ.. و لكن عجز عنها لساني .. فسألته :
- أتعلمَ ما أسميتَ هذا الجدولُ..
- ماذا ؟
- أسميتهَ الجدولَ الشاديَ.
- هذا ليس غريباً عما رأيتَ بعينيكِ ..
و بإيماءةٍ عفويةٍ سألتهَ:
- و ماذا رأيتَ ؟..
في حزنٍ أجابَ
- لن أخطَ هذه اللوحةُ .
حاولتَ أن أتلاشي تلك الكلماتُ التي لا افهمَ لها معنى و سألته.
- و أنت .. ماذا أسميته ؟
- حسناً ..لم أفكرْ لهِ يوماً في اسمِ ..لكن إن شئتْ فسأسميه جدول الموتِ .
- جدول الموت !!.. لكن هذا غريباً عما رأيتَ بعينيكِ ....!!
و لم يسألني ماذا رأيتْ ؟!... حينها اقتربتْ شيئا فشيئا .. اصبحت على مقربة شديدة منهما .. و تطلعت اليهما .. و إجتاح همسي اعصار من الضعف أمام عينيه و انا أقول :
- أرى صفاءَ ذلك الجدولُ الذي أحبُ..
ثم سألتهَ و الشغفُ يعلوُ كلماتي:
- تري لماذا أتيتَ إلى هنا ؟!
حينها امتلكه الصمت .. و خيم علينا للحظات..و كأنه يفكر في أمر بعيد:
- أتعلمين.... ثم سكتَ و رحلَ .
و جاءَ الغدَ،أحضرتَ لهِ عصا فوضعنا عصاناَ و قدماناَ بالماءِ. أدركتَ انه حانَ الوقتِ كي أعرفَ، دون أن أساءل وجدته يقول:
- أتعلمين اسمي زياد .. توفَ والدي و تركَ لي زوجهً قعيدةً و طفلهً صغيرةً.. راحتَ عيناه تدمعَ، هو يقول أنا لا أدري لمن اتركهما ؟!..
- تتركهما ؟!.. لما ؟!..
حينها علمتَ انهَ مصابُ بمرضِ قلما تنجو من براثنهِ فريسة، دعاني لزيارةِ بيته فذهبتَ معه.. كان بيتاً كبيراً في بهوه العديد من اللوحاتِ الزيتيةِ الرائعةِ.. بأسفل كل منها توقيعه.
و فجأةً ظهرتَ بالبيتِ عجوزُ قعيدةُ . فما أن رآها حتى قبلَ يداها،راحُ يبكى فمسحتَ عليه .
- ولدى لو علمتْ ما يبكيكَ!.. لأرتاحَ قلبي.
فرد ماسحاً دموعهَ ..
- لاشئ يا أمي..لقد افتقدتْكَ لا أكثر.
ثم ظهرتَ فتاةُ صغيرهُ جرتَ عليه متلهفةً، تعلقتَ بعنقهِ .. اخذَ يقبلها و يدورُ بها في بهوِ المنزلِ.
ثم عادَ يوصلني فقلتَ له:
- ما أجملَ تلك اللوحاتُ بالبهوِ ..أأنت من رسمها؟
- نعم فأنا متخرجُ من كليةِ الفنونِ الجميلةِ ..
حينها أحسستَ دقاً في رأسيِ يلحُ علىَّ كي أسألَ ذلك السؤالُ فنطقَ بهِ لساني.
- إذاً.. فما بالُ تلك اللوحةُ التيْ لن تكتملَ ؟! ..
- قد لا تصدقينني لكني أردتْ أن أخطَ وجهكَ منذ رأيتْك .. فماذا افعلَ إذا كانتَ قد سبقتَ كلمةُ الطبِ؟!
- صدقني كلَ الكلماتِ و حتى كلمةُ الطبِ دائماً تعلوها كلمةُ القدرِ...
-معكِ حقِ..
- إذا فلننتظرَ معاً كلمةَ القدرِ .
- ننتظرها نعم .. فهي ليستَ ببعيدةِ..
حينها وضعتَ يدايَّ على شفتيهِ مستوقفةً كلماتهَ.
- لا أحبُ أن أحسَ بكلِ هذا الحزنُ بداخلك..أنت تعرفُ من أنت بالنسبة إلي.
- أحقاً ؟!.. لكنْ أياميَّ معدودةً في الحياةِ.
- هذه الكلمةُ سأنطقها للمرةِ الأولى و للرجلِ الأخيرِ.. أحبكُ ..أحبكُ و لن أحبُ غيركَ أتفهمني؟؟
- أنا أيضا أحبكُ ..لكنى لا أريدكْ أن توقفي حياتكَ على حياتيِ..فهي سويعاتُ معدودةٌ و أنقضيَّ..كأنك لم تريني.
حينها سالتَ الدموعُ من عيني بغزارةٍ.. استندتُ إلي صدرهِ ..وضعَ يدهُ علي خصلات شعري برفقٍ، ضمني إليه بشدةٍ.
أحسستْ حينها بدفءِ غريبٍ يجتاحُ كياني،شعورُ طاغ بالأمنِ بين راحتيهِ حين قالَ:
- أسف لم أكنْ أقصدَ إيلامك ..أنا حقاً لا أقوى علي ذلك.
فرددتْ بصوتِ مجهش بالبكاءِ.
- أنت لم تؤلمني لكنك جرحتني..قلتْ لك أنكَ حبي الأولِ و الأخيرِ،أنت تصرَ على أن تفكرَ بمنطقِ تلك الحياةُ الضعيفةُ .. مصرً على أن تسلبنيَّ كل شئِ.
- أخبرتْكَ أني لا أقوي علي ذلك..لكن.
- كفي ليس هناكَ أيةَّ داعِ لهذهِ الكلمةِ(لكن)..فالقادمُ من عمرينا كلهِ لنا..لك ولي فقط دون الدنيا.
- يااااه..أنت حالمةُ جداً.
- نعم ..لك أن تتخيلَ فتاةَ حالمةَ تحبكُ، مجنونةً بكِ، لا ترى علي الأرضِ رجلاً غيرك.
حينها نسيَّ عذابَ مرضهِ و تظاهرتْ بكلِ براعةً بتناسيهِ.. أيامً قلائل .. لكنها أسعدَ أيامِ عشتها في حياتي كلها..زرناَ كل حدائقِ و متنزهاتِ بلدتنا ، علي كل شجرةٍ تركناَ أولَ حروفَ اسمينا..مشيناَ وسطَ الزحامِ ..جريناَ في الطرقاتِ تشاهدنا المارة و لا نأبهَ لهم.. تلاعبنا يدنيانا و تلاعبتَ بنا.
مرتَ الأسابيعُ علينا كثوانٍ، و المرض يشتد به .. و ذاتْ مرةٍ ذهبتْ إلى جدولي فروعتني رؤيةُ اللوحةِ دون صاحبها . توقفَ سريانُ الدماءِ في جسدي..أمسكتْ باللوحةِ و ظللتْ أتلمسها بديانِ عاجزتانِ.
كان مرسوماً عليها صورتينا يستندُ كلُ منا إلى ظهرِ الأخرِ .. تعلونا الشمسُ في شفقِ الغروبِ ،مرفقاً بها خطاباً . ما إن أمسكتْ به حتى ظهرَ ظلُُ على الضفةِ الأخرى .. أناسُ كثيرةُُ تشيعَ جثماناَ.
رحتَ أقرأَ ما بالخطابِ...
- حبيبتي انتظرنْا معاً كلمةَ القدرِ.. ها قد جاءتَ فأذكرينى..
اشتقتَ دائماً أن تعلمي ما رأيتَ بعينيكِ .. لقد رايتْك تعشقين الأملَ و لو كان وهمُُا .
أأخبركَ بما يضحككُ؟! .. أنا الآن أعلمَ لمن تركتُ العجوزَ و الصغيرةَ ..
حينها سرتَ في جسدي رعشةُ أماتتنى،انطبقتَ نواجذي ..فلم أستطع أن أفرجَ عما بين شفتاي.. أريدُ أن أنطقَ باسمهِ..
- زيااااااااااااااااد انتظرني..لما ذهبتَ و تركتني وحيدةً..زيااااااااد حبيبي..ما زال أمامنا الكثيرِ من الوقتِ..انتظرني لم ينتهْ بعد أي شئ.
و لكنْ هيهاتَ لم يسمعني غير جدولي الذي أضافَ إلي أحزانى التائهةِ مع أمواجهِ حزناً لا يمحى مهما مرتْ عليهِ السنونِ.
و بخطواتِ تلتوي حائرةً ما بين السرعةِ و التراخي...
أمسكتْ باللوحةِ،عبرتْ الجسرَ ..عبرتْ إليهِ. و أنا لا أدري ماذا أنا فاعلةُُ .. لم أدر كيف اتجهتَ إلى الجسرِ..و في وسطِ كلِ هذا التيهُ طارتَ اللوحةُ من يدي، أنا اعبرَ الجسرَ لتظلَ و للأبدِ .. لوحةً على صفحاتِ الجدولِ.

بقلم/ رباب السنهوري